انقاذ الحياة البرية والنباتية في موريتانيا: "سيناريوان" أحسنهما بعيدُ المنال...

سبت, 02/08/2025 - 01:31

منذ منتصف القرن الماضي فقدتْ موريتانيا قدرا هائلا من ثروتها النباتية ومن حيواناتها البرية. لكن المعطيات الدقيقة ناقصة بشكل مذهل حول الأجناس المنقرضة. فلا هي متوفرة في المراجع الوطنية الرسمية ولا في بيانات الهيئات العالمية المختصة، مثل الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) الذي يشير في هذا الصدد إلى نقص حاد في مجال المعلومات البيئية الحساسة، خاصة فيما يتعلق بالأجناس النباتية. وكذلك حول الحياة البرية، ولو أن مصادر مختلفة تذكر في هذا المجال انقراض اجناس عديدة، مثل: الفيلة، الأسود، المها، النعام ... إلخ.

وتتفق المصادر، وتتقاطع مع ما يعيشه ويشعر به في موريتانيا أي انسان له حس أو ضمير بيئي مهما كان قدره: التنوع البيولوجي في خطر شديد.  فالجفاف المتكرر، والتصحر، وارتفاع الحرارة، والصيد المفرط (البري والبحري)، وفقدان الحيوانات لمَواطنها البيئية، والرعي الجائر، والتوسع العمراني، والتلوث بأنواعه المختلفة (البري والجوي والبحري) ... كلها عوامل تؤثر سلبا، وبنسبة عالية، على الحياة الحيوانية والنباتية في موريتانيا بدرجة تجعل المستقبل يبدو قاتما. إلا أن التشبث بالأمل يبقى منفذا نركض دوما خلفه، ولو كان بعيد المنال.

نحن ضالعون رغمًا عنا!

إشكالية المخاطر التي تهدد الحيوانات البرية والتراث النباتي، تشكل اليوم تحديا عالميا يقع على رأس الأولويات التي تشغل الدول والمنظمات الدولية ... وتعمل عليها هيئات عالمية متخصصة. فنحن إذن، في موريتانيا، لسنا وحدنا في مواجهة هذه المعضلة التي تتجاوز طاقاتنا الذاتية وإن كان لنا فيها دور نافعا أو ضارا حسب تعاطينا مع الموضوع.

نحن نشارك فعلا في خلق العوامل المعادية للبيئة التي سبق ذكرها بنسب عالية ما عدا مساهمتنا في انبعاث الغازات الدفيئة التي تبلغ (0.015%) من مجموع الانبعاثات على المستوى العالمي.

ومن المعروف أن هذا النوع من الغازات هو المسبب الرئيسي للتغير المناخي وما ينجم عنه من اضرار ومخاطر بشرية.  والتعاطي معه يقوم على ركيزتين: التخفيف منه والتكيف معه. 

ولبلادنا على هذين المستويين رؤية تم الإفصاح عنها رسميا في أكثر من مناسبة[i].  تُعنَى بالحد من انبعاثاتنا الحرارية، وتركِّز على التكيف للتخفيف من الأضرار الكبيرة التي تلحق بالبلد نتيجةً للتغير المناخي رغم ضآلة مشاركتنا في مسبباته. غير أن الظاهرة عابرة للحدود. وطبعا أي تغير في وتيرتها أو مسارها سيكون له أثر على بلادنا.

وقفة عند بعض السيناريوهات...

في سياق تأثرنا بالتغير المناخي وتعاطينا معه، وفي إطار اكتساب ونشر المعارف والثقافة البيئية عموما، أثار اهتمامي نوعان من "السيناريوهات" التي تتصورها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ [ii](GIEC/ IPCC)، بالتعاون مع اتحادات علمية، من خلال نماذج متكاملة تأخذ في الاعتبار الاقتصاد والطاقة والديموغرافيا والبيئة. و هما: "مسارات التركيز التمثيلية (RCP[iii]) و"المسارات الاجتماعية-الاقتصادية المشتركة" (SSP[iv]).  وسوف نتناولهما على التوالي في ورقتين منفصلتين نبدأهما ، تبعا لظهورهما الزمني، بمسارات التركيز التمثيلية  عبر هذه الورقة .

مسارات التركيز التمثيلية (RCP[v]) عبارة عن نمْذجَة (modélisation) لاستشراف تطورات المناخ المستقبلية. وتساعد هذه التوقعات في توجيه البحوث العلمية وإصدار الإرشادات والسياسات المتعلقة بخفض انبعاثات الغازات الدفيئة والتكيّف مع التغيرات المناخية. وانبثق عنها أربع سيناريوهات رئيسية تتفاوت من حيث الطموح والقابلية للتحقيق، وهي: RCP 8.5، وRCP 4.5، وRCP 6.0، و RCP 2.6[vi]، سنتوقف أساسا عند إثنين منها تتفاوت قيمتهما عندنا حسب حاجة البلد إلى هذا السيناريو أو ذاك:

سيناريو (RCP 6.0):

 لا يعتبر السيناريو الأسوأ من بين السيناريوهات الأربعة، لكنه مخيف مع ذلك. تستمر فيه الانبعاثات في الارتفاع، مما يؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة العالمية بحوالي 3   أو حتى 3.7- حسب المراجع- درجات مئوية بحلول عام 2100. ينجم عنها بالنسبة لبلادنا فترات جفاف أطول ودرجات حرارة قصوى، وتسارع زحف الصحراء نحو الجنوب والشرق، مع انهيار المناطق الرعوية وما لذلك من عواقب وخيمة على التنوع البيولوجي وما له من آثار سيئة على المجتمعات الرعوية والزراعية التي تعتمد على النظم البيئية لكسب عيشها. وتشير بعض المصادر عملا بهذا السيناريو إلى خسارة ما يزيد على 50% من التنوع الحيواني في جزء كبير من موريتانيا. وهذا بسبب تضافر العوامل التالية:

فقدان المَواطن البيئية لمعظم الثدييات والزواحف في مناطق الساحل الداخلية.
انخفاض حاد في تنوع الحشرات الملقّحة، مما يؤثر أيضًا على الطيور وآكلات اللحوم الصغيرة.
انقراض محتمل للأنواع المتوطنة أو النادرة التي لا تستطيع الهجرة إلى مناطق أكثر رطوبة.

السيناريو (RCP 2.6):

 سيناريو متفائل، يتم فيه تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة بشكل كبير، مما يحدّ من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى حوالي 1.5 إلى 2 درجة مئوية بحلول عام 2100.  ومن الوارد حسب هذا السيناريو أن يؤدي ذلك في موريتانيا إلى:

هطول أمطار أكثر تواترًا أو توزيعًا، خاصة في الجنوب الغربي (منطقة نهر السنغال، الترارزة، البراكنة).

استعادة جزئية معتبرة للسافانا والمناطق الرطبة، مما يتيح عودة بعض المَواطن البيئية.

وسيكون لهذه التطورات آثار جيدة على التنوع البيولوجي، تتمثل في:

إعادة تأهيل النظم البيئية المائية- (نهر السنغال، دلتا الدياولينغ)- مما سينعش ويثري الثروة الحيوانية ذات الصلة الوجودية:  الأسماك، البرمائيات، الطيور المهاجرة...

زيادة الإنتاجية النباتية وتعزيز السلسلة الغذائية: مزيد من الحشرات والقوارض مع مزيد من المفترسات لها بشكل يضمن توازن عناصر الطبيعة.

عودة أنواع من الثدييات الصغيرة والزواحف والطيور الحشرية التي تراجعت بفعل التصحر

وحسب هذا السيناريو، فإن المحصلة لهذه الآثار الإيجابية تكمن في إمكانية تحقيق زيادة تصل إلى أكثر من 30٪ في التنوع الحيواني في المناطق.

وهذا فعلا يشكل مصدر شعور بالأمل لدى السكان المحليين ولدى مواطنينا بصورة عامة. غير أن الأمر يتوقف على عوامل لا نتحكم فيها. فكما يظهر من تحاليل السيناريو الذي بين أيدينا، فإن تحقيق توقعاته لن يتأتّى إلا بنقص كبير في انبعاث الغازات الدفيئة، بوتيرة تسمح ببلوغ الهدف الحراري الذي ينص عليه اتفاق باريس 2015؛ أي: 1.5 إلى 2 درجة مئوية. بينما المعطيات والبيانات المتوفرة حول السياسات المتبعة لهذا الغرض لا توحي بأن البشرية على الطريق المؤدي له.

ونحن في موريتانيا ليستْ لنا- مع الأسف - قوة تأثير كبيرة لتصحيح المسار. مما قد يضع عثرة تحُد من الآمال التي نعلَّق على هذا السيناريو.  فمشاعر التحفظ والريبة أمام الصعاب قد لا تدفع بنا إلى الفرح كثيرا به رغم كونه أفضل بكثير من السيناريو الذي سبق الحديث عنه. غير أن هذه الأفضلية النسبية ينبغي بذل كل الجهود بغية الاستفادة منها حتى ولو كانت بعيدة المنال. بل كونها "بعيدة المنال" يجب أن يكون لنا حافزا قويا لتذليل الصعاب الحائلة دونها. وفي هذا السبيل نلقى توصيات عبر الأدبيات المتعلقة بالموضوع يجب أخذها في الحسبان والسير في النهج الذي تصب فيه، أيًّا كان السيناريو.

توصيات 

تَبنِّي سياسة خارجية نشطة على المستوى الإقليمي والدولي:

 توظيف فعال لآليات الدبلوماسية المناخية،

المساهمة بقوة في تحقيق العدالة المناخية،

 الحصول على الاستفادة من مصادر تمويلات المناخ، مثل " الصندوق الأخضر للمناخ (GCF[i])، مرفق البيئة العالمي (GEF[ii])، البنك الدولي، مبادرات انتقال عادل في الطاقة ((JET-P[iii] 

حرث وانماء المواطنة البيئية بين المواطنين:

 نشر الثقافة والمعارف التي تؤسس لسلوك ويقظة بيئيين مثمرين، بغية توعية المجتمعات بالتأثيرات المناخية وإشراكهم في مشاريع الحفاظ على البيئة

تشجيع ودعم الزراعة الإيكولوجية والسياحة البيئية·

 تعزيز قدرات البلد في مجال التكيف مع التغير المناخي وتداعياته​

تحسين إدارة المياه والبنية التحتية المائية: الاستثمار في البنية التحتية (السدود، أنظمة الري الفعالة مثل استخدام التنقيط.

الطاقة المتجددة: تسخير إمكانات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري ولجذب التمويل المناخي.

  إعادة التحريج (التشجير) ومكافحة التصحر : مشاريع غرس الأشجار  مع استخدام الأنواع المحلية المقاومة للجفاف مثل الأكاسيا المعروفة محليا ب"الطلح" و"إيروارْ"، دعما وإضافة لمشروع " السور الأخضر العظيم"

انتاج وتحيين المعطيات حول وضعية وتطور التنوع البيولوجي:​

توثيق ونشر البيانات التي يتم الحصول عليها

المراقبة والمتابعة
استخدام التكنولوجيا الحديثة : الاستشعار عن بعد، المسيَّرات، الرقائق الالكترونية المثبتة على الحيوانات والمربوطة بمنظومات تحديد المواقع الفضائية مثل (GPS).

عقيد (متقاعد) البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)

 

[i]  انظر على سبيل المثال: "la Contribution Déterminée Nationale actualisée (CDN2021-2023) " وكذلك "le Rapport de la 4ème communication nationale sur le changement climatique" الصادرين عن وزارة البيئة والتنمية المستدامة.

[ii]   هي نفس المنظمة تحت اختصار اسمها بالإنجليزية  (Intergovernmental Panel on Climate Change : IPCC ) واختصار اسمها بالفرنسية (GIEC : groupe intergouvernemental sur l’évolution du climat)

[iii] Representative Concentration Pathways

[iv] Shared Socioeconomic Pathways

[v] Representative Concentration Pathways

 

[vii] Green Climate Fund

[viii] Global Environment Facility

 

[ix] Just Energy Transition Partnership (JET-P) initiatives