التداخل الحدودي بين موريتانيا ومالي ... بقلم د.محمدعالي الهاشمي

ثلاثاء, 27/05/2025 - 09:58

إن الحدود بين الدول، لا سيما في القارة الإفريقية، لا تُرسم دائمًا وفق خطوط فاصلة صارمة تعكس واقع الأرض والإنسان، وإنما كثيرًا ما تكون إرثًا لتقسيمات استعمارية لم تراعِ الاعتبارات الإثنية أو الاقتصادية أو الديموغرافية. ويُعد الشريط الحدودي بين موريتانيا ومالي أحد أبرز الأمثلة على هذا النمط من الحدود التي تشهد تشابكًا عضويًا بين المجتمعات، وتداخلاً سكانيًا واقتصاديًا وثقافيًا عابرًا للجغرافيا السياسية.

أولًا: البعد الجيوسياسي

من الناحية الجيوسياسية، يشكل هذا الشريط الحدودي منطقة تماس حساسة بين دولتين تتشاركان في التاريخ، وفي تركيبة اجتماعية قائمة على الروابط القبلية والإثنية العابرة للحدود، مثل الطوارق والسوننكي والفلان. ومع أن السيادة الوطنية تفترض وضوحًا في الخطوط الفاصلة، إلا أن الواقع الميداني يثبت أن كثيرًا من المناطق الحدودية بين البلدين تعاني من ضعف الترسيم القانوني والتقني، ما يجعلها مناطق “مرنة” من حيث الحضور الإداري والسيادي.
في هذا السياق، من الطبيعي أن تظهر بين الحين والآخر نقاشات مجتمعية تتعلق بالانتماء الترابي لبعض القرى أو التجمعات السكانية، لكن توجيه اتهامات بالخيانة العظمى لمجرد وجود مواطنين موريتانيين على أراضٍ مالية، أو العكس، لا يمكن أن يكون مقبولًا من منظور قانوني أو وطني، ما لم يتم إثبات وجود قرار رسمي بالتفريط أو التنازل عن السيادة. بل على العكس، فإن هذا النوع من التداخل ينبغي أن يُقرأ ضمن سياقاته الجيوسياسية، كنتاج لحدود رسمها الاستعمار وفق مقاربة وظيفية لا تعكس الواقع المجتمعي

.
ثانيًا: المعطى الديموغرافي

أما من الناحية الديموغرافية، فإن الحدود لا تقطع أوصال المجتمعات، بل تعبرها الحياة. فوجود قرى ذات غالبية موريتانية داخل الأراضي المالية، أو قرى مالية داخل الأراضي الموريتانية، لا يُعد حالة استثنائية، بل هو القاعدة في كثير من المناطق الحدودية في إفريقيا. هؤلاء السكان يتفاعلون يوميًا ضمن نسيج اجتماعي وتجاري ووجداني لا تقوى الحدود الرسمية على تفكيكه. إنهم يتنقلون بحرية نسبية عبر الحدود، يتزاوجون، يتاجرون، ويتعاونون في الرعي والزراعة، مستندين إلى أعراف محلية أقدم من الدول نفسها.
ولعل الأخطر من الخطأ في توصيف الانتماء الترابي لهذه القرى، هو استخدام ذلك لإثارة الرأي العام والتشكيك في المواقف السيادية للسلطات، دون أدلة مادية أو حجج قانونية. فالوطنية لا تُقاس بالعواطف وحدها، بل بالتعامل الرشيد مع الملفات ذات الحساسية، والاعتماد على المؤسسات المختصة في التحقق والرد، دون الانزلاق إلى خطابات الاتهام العشوائي.

ثالثًا: الحدود كواقع قابل للتسوية لا للخصومة

في أغلب هذه الحالات، تكون المساحات المتنازع على هويتها غير مرسمة بشكل نهائي أو تخضع لما يسمى بـ”الوضع القائم”، أي أن السكان يستفيدون من الأرض ويتنقلون فيها دون أن تكون محل صراع رسمي بين الدولتين. وفي مثل هذه الحالات، يتم غالبًا تنظيم الأمور وفق لجان ترسيم مشتركة، أو توافقات محلية تُراعي المصالح المشتركة وتحفظ لحمة السكان دون المساس بمفهوم السيادة.
وهنا ينبغي التنبيه إلى أن من خصائص الحدود الإفريقية المعاصرة أنها “حدود تفاهم وتدبير مشترك”، أكثر مما هي “حدود خصام”، فالحفاظ على الاستقرار الأهلي، والتعاون في مكافحة الإرهاب، والتصدي للجريمة المنظمة العابرة للحدود، كلها تحديات تفرض على الدولتين المضي قدمًا في تنسيق أمني وتنموي، بدل الانخراط في تجاذبات عاطفية فارغة.

خلاصة

إن التداخل الحدودي بين موريتانيا ومالي ليس ظاهرة استثنائية ولا مسألة سيادية ملتبسة، بل هو انعكاس حي لطبيعة الحدود الإفريقية المعقدة. ومن الخطأ اختزال هذا التداخل في خطاب التخوين أو تسويقه سياسيًا دون تثبّت. المطلوب بدل ذلك، هو التعاطي مع هذا الملف بعقل بارد، وتحكيم أدوات التحليل الجيوسياسي، واعتماد الحوار المؤسسي بين الدولتين، بعيدًا عن الشعارات والانفعالات.